حدود العقل في إدراك الغيب : الزمن نموذج
...
مستويات الغيب:
أ- غيب نسبي:
هناك ما يسمَّى بالغيب النّسبي، وهو ما غاب عن
الحواس في عالم الشّهادة، ويدخُل في ذلك الماضي والمستقبل، فكلاهما غيبٌ بالنّسبة
للحواس، وكذلك الأمر بالنّسبة للحاضر، فهو غيبٌ بالنّسبة لِمَن لَم يشاهده، لكنه
ليس غيبًا لِمَن عاصَره وعاشَه، فهناك أمورٌ معاصرة للشخص المعيَّن، لكنه لَم
يشاهدها لغيابه عنها، فتكون غيبًا بالنسبة له، وليستْ غيبًا لِمَن شاهَدها، والشّخص
الواحد قد يكون الأمر غيبًا لَدَيه في وقتٍ دون وقت، وعلاقة العقل بهذا النّوع من
الغيب النّسبي متفرِّعة من علاقته بعالم الشّهادة، فما غاب عنَّا وجرَّبه غيرُنا،
لَزِمنا العمل بمقتضاه عند العلم به.
وما تواتَر العلم به عن الأُمم الماضيّة من أخبار
الأنبياء عنهم، هو ما يلزم العلم به، وما يَتَنبَّأ به العلماء - بناءً على
المشاهدات العلميَّة المتكرِّرة - هو من هذا القبيل؛ بناءً على اطِّراد السُّنن
الإلهيَّة في الكون؛ سواء تعلَّقت هذه السُّنن بالظّواهر الطّبيعية، أو بالمجتمعات
البشريّة؛ لأنّ سُنة الله في كونه لا تتخلَّف إذا وُجِد المقتضي وارتفَع المانعُ،
وهذا هو محلُّ اعتبار الإنسان الذي ندبَه القرآن إليه في نهاية كلِّ قصة يقصُّها
عن الأُمم الماضيّة؛ حيث يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]، ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ﴾ [الشعراء: 8].
تكرَّرت كثيرًا في سورة الشعراء هذه التعقيبات
القرآنية على قَصص الأُمم الماضية، وهي تَلفت نظرنا إلى الغرض من سَوْق هذه القصة
أو تلك؛ ليقوم العقلُ بوظيفته فيها - فكرًا وتأمُّلاً واعتبارًا، وذلك ما ندَبه
الشرع له، وحثَّه عليه.
ب- الغيب المُطْلق:
وهو ما لا سبيلَ للعقل إلى العلم به عن طريق
الحواس بحالٍ ما، أو هو ما استأثَر الله بعلْمه وحجبه عن جميع خلْقه؛ قال الله
تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ [الأنعام:
59]، ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ
اللَّهُ ﴾ [النمل: 65].
- والغيب قد يُطلق في القرآن الكريم ويُراد به
مكنون العلم الإلهي الذي استأثَر الله به عن سائر خلْقه، يستوي في ذلك الرّسول
والنّبي والوَلِي، إلاَّ مَن شاء ربُّك منهم، فيعلِّمه الله ما شاء من عِلْمه كيف
شاء؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَلَا
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، ﴿
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: 113].
فهذا العلم الإلهي غيْبٌ عن الإنسان لا يُنال
بحسٍّ ولا عقلٍ، ولا سبيل إليه إلاَّ بالتّعليم الإلهي لِمَن شاء من عباده، عن
طريق الوحي أو الرُّؤيا أو الإلهام، فهو ليس اكتسابًا، ولكنَّه وهبٌ وعطاءٌ، لا
مدخل لروافد العقل المعرفيَّة إليه،...
No comments:
Post a Comment