حدود العقل في الإلهيات والغيبيات ...فأعْظم
ثمرةٍ للعقْل: معرفته لخالقه وفاطِرِه، ومعرفة صفات كمالِه، ونعوت جلاله وأفعاله،
وصدْق رسله، والخضوع والذّل والتعبّد له.
وهذا العقْل العظيم
هو حجَّة قائمة لوحده في إثبات وجود الله - تعالى - وعبادته، ونفْي الشَّريك
عنْه حتَّى وإن لم يرِدْ بذلك شرع، فإنَّ الله تعالى قد ركَّز في
الفِطَر والعقول حقيقة الإيمان بالله والكُفْر بما يعبد من
دونه، وإنَّما جاءت الرّسل للتَّذْكير بما هو مستقرٌّ في عقول وفِطَر الخلق
قبل وقوع الانحِراف فيهما.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]: "أجمع العلماء على أنَّ هذه الآية من المحكم المتَّفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتُب، ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب".
...وقال ابن
القيِّم - رحِمه الله تعالى -: "واعلم أنَّه إن لم يكن حسن التَّوحيد وقبح
الشرك معلومًا بالعقْل، مستقرًّا في الفطر، فلا وثوق بشيء من قضايا العقْل، فإنَّ
هذه القضيَّة من أجلِّ القضايا البديهيَّات وأوضح ما ركَّب الله في العقول
والفِطَر؛ ولهذا يقول - سبحانه - عقيب تقْرير ذلك: أفلا تعقلون، أفلا تذكَّرون,
وينفي العقْلَ عن أهل الشرك ويُخبر عنهم بأنَّهم يعترفون في النَّار أنَّهم لم
يكونوا يسمعون ولا يعقلون، وأنَّهم خرجوا عن مُوجب السَّمع والعقل، وأخبر عنهم
أنَّهم صمٌّ بكْمٌ عمْي فهم لا يعقلون، وأخبر عنهم أنَّ سمْعَهم وأبصارَهم
وأفئدتهم لم تُغْنِ عنْهم شيئًا.
ومع هذا الدَّور
العظيم الَّذي منحه الشَّارع للعقل، إلاَّ أنَّه قطع مرام العقْل في الخوض فيما لا
يصلح له، ولا يمكن أن يكون له فيه دوْر في البحث، في الغيبيَّات الخارجة
عن نطاق تصوُّر العقل لها، وعلى رأسِها قضيَّة الألوهيَّة بجوانبها الثَّلاثة:
(الذَّات - الصِّفات - الأفعال).
فوقف دوْر العقْل
فيها على التَّصديق بما جاء عن طريق الخبَر الصَّادق من الكتاب والسنَّة, ومنع
الشارعُ العقلَ من الخوض فيها؛ لأنَّه لا طاقة له في الوصول إلى حقائق
عينيَّة في هذا الجانب؛ قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:
110]، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال: {هَلْ
تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، ولأنَّ قضيَّة الألوهيَّة ليست قضيَّة
من القضايا المحسوسة الَّتي يُمكن للعقل البحْث فيها بناء على ما يشاهِدُه منها
ومن أحوالها, فالعقل لم يشاهد هذه الأمور الغيبية فلا يصح له الكلام فيها، فالكلام
في الشَّيء فرعٌ عن تصوُّره، والتصوُّر للشيء إنَّما هو العلم به؛ {وَلَا
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، {وَلَا
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
No comments:
Post a Comment