حدود العقل في الغيبيات : الروح كمثال ...وجاء القرآن هُدى
الله إلى العالمين، فشكَّل حلقة الوصل بين السّماء والأرض، وبيَّن تصوير المعاني
الغيبيَّة وتصوّر المسلمين لها، وبيّن الإخبار عن الذَّات الإلهيَّة، وما يجب لها
من صفات الكمال وحكمة الأفعال، وإيمان المسلمين بها وإذعانهم لها.
وقد بيَّن الوحْي
قُصور العقْل في تصوُّر المسائل الغيبيَّة في مناسبات كثيرة في الكتاب والسنَّة،
وجاء الوحْي مسدِّدًا للعقْل، مرشدًا له فيما لا يدْرِكه ولا يعرف
ماهيَّته، وبين للعقل أنَّ نصوص الوحي قد تأتي بما يَحار العقل فيه، لكنَّها
لا تأتي بالمستحيل الَّذي لا يقبل الوجود, وأنَّ مقام العقل في هذه المسائل مع
النَّقل مقامُ التابع المفتقِر العاجز الَّذي يسدُّ عجزه الوحي المبين مِن ربّ
السَّموات والأرَضين - تبارك وتعالى.
ومن هذه الأمثلة الّتي
تتجلَّى فيها هذه الحقيقة قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}
[الإسراء: 85].
...
ورُويّ عن ابن عبَّاس
أنَّه قال: إنَّ قريشًا قد اجتمعوا وقالوا: إنَّ محمَّدًا نشأ فينا بالأمانة
والصِّدْق وما اتَّهمناه بكذب، وقد ادَّعى ما ادَّعى، فابعثوا نفرًا إلى اليهود
بالمدينة واسألوهم عنْه؛ فإنَّهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت
اليهود: سلوه عن ثلاثةِ أشياءَ، فإن أجاب عن كلِّها أو لم يُجِبْ عن شيءٍ
منْها فليس بنبيٍّ، وإن أجاب عن اثنَين ولم يجب عن واحدة فهو نبيّ، فسلوه عن
فِتْية فقدوا في الزَّمن الأوَّل ما كان من أمرِهم؛ فإنَّه كان لهم حديث عجيب، وعن
رجُل بلغ شرقَ الأرض وغربَها ما خبره؟ وعن الرُّوح، فسألوه، فقال النَّبيُّ -
صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أخبركم بما سألتم غدًا)) ولم يقل: إن شاء
الله، فلبث الوحي - قال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة، وقيل: خمسةَ عشر
يومًا، وقال عكرمة: أربعين يومًا - وأهل مكَّة يقولون: وعدَنا
محمَّدٌ غدًا، وقد أصبحنا لا يُخْبِرنا بشيء، حتَّى حزن النَّبيُّ - صلَّى
الله عليه وسلَّم - من مكْث الوحْي، وشقَّ عليه ما يقوله أهلُ
مكَّة، ثمَّ نزل جبريل بقوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف 23- 24]، ونزل في
قصَّة الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا
مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9]، ونزل فيمَن بلغ الشَّرق والغرب:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} ونزل في الروح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}.
فحقيقة الرّوح -
أيًّا كان الرَّاجح في تفسيرها من أقوال العلماء - مَحجوبةٌ عن العقول، وهذا
الَّذي صرَّحت به الآية الكريمة، قال عبد الله بن بريدة: إنَّ الله لم يطلع على
الرُّوح ملَكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرْسلاً.
فوجب على العقل قبول
حقيقة الرُّوح وإن لم يدرِكْها بآلاته وحواسِّه المادّيَّة، وعلى قول: أنَّ الرّوح
هو الخلق المركَّب الَّذي يكوِّن مع الجسد مسمَّى الإنسان - وهو
الرَّاجح - فلا يعرف أنَّ عاقلاً أنكر حقيقة الرّوح الّتي يحيا بها الإنسان،
مع عجزه عن تصوُّرها تصوُّرًا محسوسًا ومعرفة ماهيّة هذه الرّوح، فدلَّ هذا دلالة
واضحة لكلّ لبٍّ صحيح أنَّه ليس كلُّ محجوبٌ فهو غير موجود، وأنَّه ليس كلُّ ما لا
يدركه العقل فليس بموجود، كما يزعم كثيرٌ من الفلاسفة وأرباب النّظر, ودلَّ أيضًا
دلالة عظْمى على وجوب انقِياد العقْل للنَّقل الصَّحيح، وعلى وجوب تبعيَّة
العقل للوحْي، وأنَّ النقل يَحكم ولا يُحكم, ويَقضي ولا يُقضى عليه.
المصدر: حدود العقل في الإلهيات والغيبيات-ماهر عبدالحفيظ صفصوف(شبكة الألوكة).بتصرّف.
No comments:
Post a Comment